تجلي الإله.. جدل الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية
لا يتجلّى الوحي في التاريخ الزمني إلا عبر التفسير البشري له، ومن هنا تكون النقلة من الإلهي إلى الإنساني، ومن المقدس إلى البشري من خلال تفسيرات العلماء لهذا الوحي؛ فالوحي هو رسالة السماء إلى الأرض، وهو في الوقت ذاته نداء الأرض إلى السماء بالسؤال والاستفسار. من هنا كانت علوم الدين هي تفسيرات وقراءات للوحي في مجالات كل علم من العلوم الدينية؛ فعلم الكلام يعالج أصول الاعتقاد الديني في الإسلام، وعلاقتها باعتقادات الأديان الكتابية الأخرى كاليهودية والمسيحية، ويعالج الرد على الثنوية والدهرية والصابئة، وتظل الأزمة الكامنة في علم الكلام هي نتيجة للاعتقاد بأن تجلي المطلق (الله) في أرض النسبي (الإنسان) لا يكون إلا بالمطلق؛ لأن تجلي المطلق لا يتم إلا عبر لغة النسبي وأدواته في المعرفة والفهم والاستيعاب، تلك الأدوات المشروطة بظروف البيئة والزمان والمكان، وهو ما يؤدي إلى اختلاف البشر حول نصوص الوحي نتيجة لاختلاف ألوانهم ولغاتهم وبيئتهم وثقافتهم وزمانهم ومكانهم، ونظمهم المعرفية والثقافية. لذا صار من المستحيل إدراك صورة الله بشكل واحد؛ وذلك لأن الله كمطلق، مستحيلٌ أن يتجسد على الأرض بصورة مطلقة لعجز النسبي (الإنسان) عن استيعابه.
وفي دائرة الفقه والفقهاء، نجد صورة أخرى للإله تتجلى عبر كلمته وشريعته، ولابد أن تحكم تلك الصورة حركة الإنسان وحركة الاجتماع في العالم، ولما كانت كلمة الله – في مسألة التشريع- عبر ما دونته الرسالة محدودة، وبالمقابل كانت حركة الإنسان وحركة الاجتماع لا متناهية، كانت هناك حاجة للتوسيع المستمر لدائرة الشريعة، حتى تظل حاكمة وضابطة لحركة الاجتماع البشري بإعادة إنتاج القوانين والتشريعات المتجددة بتجدد حركة الزمان والمكان والبيئة والثقافة، وتجدد وتنوع حركة الإنسان وحركة الاجتماع البشري معاً، حتى تظل الشريعة هي الضابطة والمسيطرة.
وبدت الألوهية بصورة إيجابية في التصوف الإسلامي؛ فهي محلّ الحقيقة ومصدر للجمال والكمال والجلال، وعلى الإنسان أن يسعى إلى الفناء بالواحد؛ وذلك عبر السير والسلوك الذي يتطلب تخلية القلب من كل الأمراض والرغبات وقمع الشهوات والأهواء، ثم تحلية القلب بالذكر المتصل لله سبحانه وتعالى؛ وذلك حتى يترقى الإنسان في أحواله ومقاماته، وهو يتدرج في الطريق الصوفي.